تشكل زيارة الرئيس اللبناني جوزاف عون إلى السعودية، ثمّ إلى القاهرة للمشاركة في القمة العربية، بشأن قطاع غزة، فرصة مهمّة، بل مجموعة فرص لإعادة الثقة بدور لبنان المحوري في المنطقة، ومركزية هذا الدور في قلب العالم العربي، على الرغم من الخسائر الهائلة التي أسفر عنها تحييد لبنان عن العرب، وأخذه في اتجاه آخر، لم يكن في مصلحته البتة، حيث عاد الوطن الصغير إلى عصور الحجر، بعدما كان مرفأ، ومطاراً، ومدرسة، وجامعة، ومستشفى، ومصرفاً، وفندقاً، ومنتجعاً سياحياً، ودرّة الشرق.
وليس من لبناني تهمّه مصلحة بلاده إلاّ ويأسف أشدّ الأسف، وهو يرى أمام عينيه مصائب لا تحصى، وكوارث لا تعد، بسبب اختطاف لبنان، وإلباسه رداء لا يناسبه، وإدخاله رغماً عنه في متاهات كان بغنى عنها.
ولا شك في أن الرئيس عون هو من القادة الواعين، والقارئين بعناية لما حدث منذ أربعين عاماً، وهو بالتأكيد يريد إخراج لبنان من النفق الذي أوصل إليه استفراد فريق بالقرارات، وطمس الهوية اللبنانية العربية، ومحاولة اقتلاع لبنان من جذوره التي تمتد عميقاً في تراب المنطقة منذ مئات السنين.
ولأوّل زيارة يقوم بها الرئيس اللبناني إلى الخارج، وتحديداً إلى السعودية، دلالة رمزية، وقيمة معنوية، وعلامة استنهاض للعلاقات التي شابتها شوائب كثيرة، ليس للدولة اللبنانية ناقة فيها ولا جمل. وقد تعرّضت السعودية، والدول التي غمرت لبنان بالكرم والعطاء والأريحية، واحتضنت أبناءه المغتربين، لموجات من الشتائم والإهانات، لا تليق بلبنان، ولا بأيّ وطن آخر.
وتأتي الزيارة في نقطة تحول مهمة بالنسبة للبنان والمنطقة، ليس فقط بسبب إضعاف حزب الله، بل أيضاً بسبب انكفاء القبضة الإيرانية عن كل من لبنان وسوريا، هذين البلدين الجارين اللذين شربا الكأس المرّة. ولا تزال هناك أخطار محدقة، تطل برأسها من الدولة الجارة التي بدأت تتكشف ملامح أزماتها، وخصوصاً أزمة الأقليات، التي استغلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لإظهار عاطفته على الدروز، والرغبة في حمايتهم، كما بدأت أصوات تطالب بحمايات للمسيحيين والعلويين، وطوائف أخرى، بدأت تشعر بأنها مستهدفة. ونضيف إلى هذه الأخطار الرغبة الإيرانية في استكشاف طرق جديدة، يمكن من خلالها إرسال السلاح والأموال من جديد إلى لبنان، وليس مرفآ طرطوس واللاذقية ببعيدين عن هذا الحلم الإيراني، فمن الصعب على طهران أن تبتلع الموسى بهذه السهولة، وتسلِّم بأن أصابعها قد قُطعت، وخسرت العواصم الأربع التي كانت تتغنى بها في السابق.
والمملكة العربية السعودية، المعروفة بدبلوماسيتها الهادئة والمدروسة، استقبلت الرئيس السوري أحمد الشرع قبل الرئيس عون، بأيام قليلة، مؤكدة على مرجعيتها، ومحوريّتها كدولة زعيمة في الشرق الأوسط، وكلاعب أساسي في العالم.
وأشاد الرئيس عون، بالعلاقات التاريخية بين الرياض وبيروت. هذه العلاقات التي لا يمكن إنكارها، أو تشويهها، فالسعودية كانت دائماً تمدّ يدها إلى لبنان، وساهمت في إعمار ما تهدم عدة مرات، وساعدت في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، عندما رعت اتفاق الطائف عام 1989.
ويقول الرئيس عون بعد اجتماعه مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان إنه يأمل تصحيح العلاقات بما يخدم مصلحة البلدين، وأن تزول كل العوائق التي كانت موجودة في الماضي القريب، حتى يتمكن البلدان الشقيقان من بناء علاقات اقتصادية وطبيعية، ويعود السعوديون إلى بلدهم الثاني لبنان.
وعلى الرغم من أن الجمهورية اللبنانية ليست هي المسؤولة عن تردي العلاقات مع المملكة، فإنها دفعت أثماناً باهظة، بسبب سياسات الاستفراد، والتصرف بقرارات استراتيجية ينبغي أن تخص الدولة وحدها، كما في جميع أمم الأرض، والشواذّ لا يمكن في أي مكان وزمان أن يكون القاعدة.
أمام لبنان عهد جديد، وأمل جديد بالعودة إلى المسار الصحيح، وهذا التحوّل لا يحدث مرّتين في عمر الإنسان، بل مرّة واحدة، فيجب استثماره، والتأكيد على إيجابيته، فلا العرب قادرون على التخلّي عن وطن الأرز، ولا هو يعيش بكامل قواه لو تخلّى عنهم، فالجغرافيا والتاريخ والتقاليد والقيم، كلّها تحكم العلاقات، ولا يصحّ إلا الصحيح.
ونرجو أن يكون الزخم العربي قوياً في الأشهر القليلة المقبلة، في اتجاه دعم لبنان، وإعادة الإعمار. ومن المفارقات أن الأشقاء العرب يبنون دائماً ما لم يهدموه، ولم يكونوا مسؤولين عن دماره. وهم بالتأكيد سيبنون، فيما ينكفئ كثيرون آخرون، ويبحثون عن نافذة مفتوحة هنا وهناك، لاستعادة مجدهم المفقود.
ج.د.