صاحب الحق غير سلطان

ما كاد حبر مقالتنا السابقة عن فيدراليّة القضاء يجف، حتّى ظهرت إلى الملأ تداعيات اغتيال مسؤول قوّاتي في الجنوب، وحادثة الكحالة. وسينتظر اللبنانيون طويلاً، وطويلاً جداً، أي أكثر من عمر الإنسان، ليعرفوا ماذا حدث في الجنوب، ومَن هم المسؤولون عن الجريمة، ومَن أمر العناصر في السيارات الخمس بالتوجه إلى عين إبل، لاغتيال الياس الحصروني، وتنفيذ تمثيلية تُبيّن أنه تعرض لحادث مروري. وعلى الرغم من أن إحدى الكاميرات التي لم ينتبه “الممثلون” إلى وجودها قد كشفت وجوههم، وأظهرت أن الحادث كان مدبّراًُ… فلا وزارة الداخلية، ولا القضاء، ولا حتى الجيش قادر على ملاحقتهم. والسؤال هنا: لماذا يستنكر البعض وجود نظامين وقضاءين ودولتين ومكيالين في بلاد واحدة؟ وهل مطلب السياديين بوجود دولة فعلية تطبق القوانين على الجميع كأسنان المشط هو الجريمة، أم الجريمة هي الجريمة؟
وفي الكحالة أيضاً، وجوه معروفة. وبعد الحادثة سُمعت تهديدات عنفية. لكن الأنظار توجهت فقط إلى جهة واحدة، واتهمت هذه الجهة وحدها بأنها هدّدت وتريد العودة إلى الحرب الأهلية. علماً أن اللبنانيين تعبوا من الممارسات غير الصحيحة والمخالفة للدستور الذي نصّ حرفياً على تسليم سلاح الميليشيات جميعاً، ومن دون أيّ استثناء، إلى الدولة. وإذا كان هناك مَـن يأخـذ على أطراف لبنانية شعورها بالغبن، فهذا من حقها، لأنها شعرت بالتمييز، وجرى اختراع حجج لإبقاء السلاح لدى طرف دون آخر. وهذا لب المشكلة في لبنان، وهو الذي أدى إلى الانهيار الاقتصادي والسياسي، وإلى سلسلة جرائم واعتداءات وتصفية حسابات، حتى وصل الأمر بالبعض إلى المطالبة بالفيدرالية، والبعض الآخر ذهب بعيداً إلى حد المناداة بالتقسيم، وهؤلاء يرون أن العيش مستحيل في نظامين مختلفين، ودولتين مختلفتين، واحدة يحق لها أن تفعل ما تشاء، والأخرى يطبّق عليها القانون.
وبينما تسارع القوى الأمنية في زمن قياسي، للقبض على مجرمين وزجهم في السجون، تبقى جرائم أخرى غامضة، مع أنّ قرائنها كثيرة، وبعضها – كما حدث في عين إبل- واضحة وضوح الشمس، ولا يحدث البطء والتلكؤ وغض النظر إلا عندما يكون المتهم أو المتهمون من غير جماعة “البِدون”. حتى وصل الأمر إلى اعتبار بعض المرتكبين من أنواع الملائكة ولا يجوز المس بهم.
هذا الشعور، في أي دولة في العالم، هو الذي يؤدي إلى الحروب، وليست التصريحات التي تأتي كنتيجة طبيعية للإحساس بالضيق والنفور… فكيف لا ينفر شعب بكامله من أن تحقيقات المرفأ لم تصل إلى نتيجة بعد، فقط لأن القرائن والشبهات تحوم على طرف؟ ولو حامت الشبهات على “القوات اللبنانية” أو “الكتائب” مثلاً، لكنا رأينا الآن زعماء هذين الحزبين في المحكمة بتهم الخيانة العظمى وتدمير مدينة وقتل سكانها.
يجب أن ينتبه المسؤولون اللبنانيون جميعاً إلى أن هذا الواقع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ولا بدّ من أن تكون هناك مقاربة عادلة، تأخذ بعين الاعتبار مصالح اللبنانيين الآخرين الذي يكادون يصدقون أنهم من الدرجة الثانية، فالمراجل عليهم من فج وعميق، وليس في يدهم حيلة سوى اللجوء إلى دولة تحميهم، وللأسف، فإن الدولة تضرب بيد من حديد هنا، وتصبح مشلولة هناك. والمسألة لا تتعلق بحادثة واحدة، بل بعشرات الحوادث التي لا يمكن أن يكون النظر إليها كلها خاطئاً. وبعيداً عن منطق هز العصا، رجاؤنا أن يسود منطق الحكمة والوعي، والعودة إلى الدولة الواحدة التي ليس فيها سمن وزيت، بل الكل فيها مواطنون متساوون.
ج. د.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com