هذه رائحة الحرب لمن يستعجلونها: دماء أطفال على الإسفلت. واحتراق اللحم الحيّ، كقلب الأم التي شاهدت بناتها الثلاث: تالين وريماس وليان. وعجز خال الوالدة، الذي كان في سيارة أمامهنّ، وسمع صراخهنّ، وما كان بيده حيلة، سوى أن سحب ابنة أخته قبل أن تحترق، حتّى ذابت الصرخات في أذنيه.
ولم يعد هناك حناجر ولا أصوات.
نزح كثيرون من جنوب لبنان، وما تزال صور الشهداء الأبرياء تتوالى يوماً بعد يوم.
ثلاث فتيات شيعيّات: ريماس اسم فارسي، ومعناه “ماء الماس” أو قلبه ولمعانه. وتالين اسم يوناني ومعناه “المُزهِرَة”، كوجه الراحلة. وليان اسم يراوح بين العربي ومعناه “اللين”، وبين الصيني ومعناه “زهرة اللوتس”، وبين اللاتيني ومعناه “الراهب” أو “المحارب”. هؤلاء الفتيات لم يسألهمنّ أحدٌ عن رأيهن، ولا انتسبنَ إلى حزب مسلّح ومقاتل، ولا قرّرن المشاركة في الحرب. كُنَّ في نزهة صباح الأحد، وكان يُفترض أن تستيقظ كلّ واحدة منهنّ الإثنين الساعة السادسة صباحاً، ككلّ طفل في العالم، للذهاب إلى المدرسة، لكنّهنَّ احترقنَ في لحظة إقليمية معقّدة. تماماً ككلّ لحظات أهل الجنوب وقراه.
ربّما درست ريماس في حصّة الجغرافيا أنّ لبنان “صلة الوصل” بين الشرق والغرب. كانوا يكذبون يا ريماس. كانوا يكذبون يا ليان. كانوا يكذبون يا تالين. لبنان ساحة المتحاربين. باحة الفصل بين الشرق والغرب. جنود من جنسيّات لا تنتهي: 49 جنسيّة في اليونيفيل وحدها. وفلسطينيون ولبنانيون وإيرانيون وربّما عراقيون وأفغانٌ ويمنيون وسوريون من جهتنا، وعلى الجهة الأخرى جنسيات لا تنتهي، جاء بها الغرب ووطنّ حامليها في أراضي الفلسطينيين، وأساطيل أميركا وبريطانيا أمام شواطئنا جاهزة للمشاركة في هذه المعركة. وقادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا والبقيّة… يتسابقون إلى تل أبيب.
على هذه الأرض، كانت ريماس وتالين وليان في سيّارة مدنية، بين عيترون وعيناتا. فهل صدّقنَ أنّها بلادٌ آمنة؟ أنّ كلّ هذه الأساطيل لن تقتلهنّ؟ لماذا ما يزال هناك مدنيون في هذه القرى؟ من سمح لهنّ بالبقاء؟ أو السؤال الأدقّ: من أجبرهنّ على البقاء؟ هل كان لديهنّ ملاذٌ آخر؟
ظنّ والدهن وظنّت والدتهن التي أصيبت في القصف بجروح خطيرة، وظنّ الجميع أنّ الحرب انتهت، وأنّ الجنوب آمنٌ للعيش والتعليم والعمل والتنقّل. لكن جاءت الطائرة الصهيونية، وأثبتت العكس.
كلّ هذه التعقيدات، وقد اجتمعت لإحراقهنّ وهنّ أحياء، على طريق البيت. من الهمجية الصهيونية وعمرها من عمر لبنان، ومن تقاطع الحروب الدينية والأصوليات، إلى الدول وأطماعها، ومن التقصير الحكومي والحزبي، إلى كذبة الأمان في الجنوب، ومن غياب خطّة الإخلاء والإيواء، إلى الانهيار الاقتصادي وأسبابه، ستودي بكثيرين وكثيرات لا يملكون ثمن الخروج من الجنوب.
التشييع
بلدة بليدا شيعت الجدّة والفتيات الثلاث في مأتم مهيب، حضره المئات. وحضر من ساحل العاج، حيث كان يعمل، الوالد محمود شور، وبدا منكسراً وتائهاً، بعد أن فقد فلذات كبده (10 سنوات، 12 سنة،4ا سنة)، فيما اقتصر التعاطي الرسمي على إعلان وزير التربية عباس الحلبي عن دقيقة صمت في المؤسسات التعليمية، يوم أمس الأربعاء. وأصدرت مدرسة راهبات القلبين الأقدسين، حيث كانت الفتيات يتعلمن، بياناً مفعماً بالمرارة، نعت فيه التلميذات الشهيدات، وقالت: “هجوم مشروم ومستنكر بكل قواميس اللغة”.