الرئاسة وغبار المعركة

كلمة مدير التحرير / د. جميل الدويهي

توقف المراقبون كثيراً عند المبادرة التي قامت بها كتلة “الاعتدال” النيابية، متسلحة بوعد قطعه رئيس مجلس النواب نبيه بري، بفتح المجلس أمام دورات متتالية لانتخاب رئيس للجمهورية. وتناول المحللون والإعلاميون، وأوساط سياسية أيضاً هذا التطور بكثير من التفاؤل، ولم يأخذوا بعين الاعتبار أن الرئيس بري لا يمكنه أن يخالف رأي حزب الله ولا توجّهاته، كما أنه قادر في أي لحظة على الاجتهاد، لإبقاء المجلس مقفلاً حتّى إشعار آخر.
القضية كلها أن حزب الله لا يريد رئيساً في الوقت الحالي. وعندما يطرح أي حزب مرشحاً واحداً ووحيداً للحوار عليه، فهو يعرف أن الطرف الآخر لن يوافق، وحتى في منطق “الميثاقيّة” التي تغنّى بها الحزب كثيراً في الماضي، لا يجوز مقارعة الأطراف الممسيحية الكبرى، مثل القوات اللبنانية، والكتائب، والتيار الوطني الحر، وحتى الكنيسة المارونية، إلا إذا كان وراء الأكمة ما وراءها. ويمكننا أن نستخلص العبر من هذا الانتهاك للدستور أولاً، وللميثاقية ثانياً. ونعتقد أن انتخابات الرئاسة مؤجلة إلى ما بعد غزة، حيث يتوقع الحزب الانتصار على إسرائيل. وفي منطق الحركات الثورية عبر التاريخ، فإن المنتصر هو الذي يفرض شروطه، علماً أن “الانتصـار” على إسرائـيـل قـد يؤدّي إلى فرض شروط عليها، وليس على أطراف لبنانية ليست خاسرة في الحرب، ولا ناقة لها فيها. من هنا، ترتاح المعارضة اللبنانية إلى مجرى الأمور. ولعلّ أكبر خسارة منيَ بها الحزب مؤخراً هي تخلي التيار الوطني الحرّ، الذي طالما كان يوفر الغطاء المسيحي للحزب، عن كثير من نقاط التلاقي والاتفاق معه. وفي تصريح رئيس التيار النائب جبران باسيل الأخير مع “إندبندنت عربية”، ما يشبه الطلاق مع العديد من طروحات الحزب، فكأن باسيل ينطق باسم شريحة كبيرة من اللبنانيين، تقول: كفى تفرّداً بقرار الحرب والسلم، ونعم لخضوع هذا القرار للدولة اللبنانية حصراً، وتسليم كل سلاح غير شرعي إلى الجيش اللبناني.
وذهب باسيل إلى أبعد من ذلك، فاتهم ضمناً حزب الله بأته خالف شروط اتفاق مار مخايل التاريخي، واستغل هذا الاتفاق لأغراض أخرى غير واردة فيه. فباسيل يؤكد أن الاتفاق ينص على حماية لبنان وليس تحرير القدس والتدخل في اليمن وفي شؤون دول الخليج، والاتفاق ينص على استراتيجية دفاعية يتفق عليها اللبنانيون، فأين هي تلك الاستراتيجية التي يتجاهلها حزب الله إمعاناً في التمسك بسلاحه؟… والاتفاق ينص على بناء الدولة، وهذه الدولة لم تعد موجودة إلا شكلاً. وكأنّ باسيل في بعض مواقفه يكرّر ما قاله رئيس الجمهورية السابق ميشال عون مؤخراً، من أن “لبنان لا يرتبط بمعاهدة دفاع مشترك مع غزة”. وهذه النظرة الخلافية مع الحزب، تؤكد أن الأمور لن تعود إلى نصابها، وفي الوقت ذاته، فإن كرسيّ بعبدا سيظل شاغراً، طالما أن هناك طرفاً يريد كل شيء له، من البابوج إلى الطربوش.
لذلك لا بدّ من انتظار نتائج الحرب في غزة. وتلك النتائج ستقرر كثيراً من الأمور، ليس في لبنان وحده، بل في المنطقة برمتها. والانفصال الأخير بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وإن يكن جزئياًً، هو بعض نتائج هذه المعركة، والأسابيع المقبلة ستتمخّض عن تغييرات مفاجئة للجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com