هل انتهى لبنان السياسي وحده، كما يقول المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان؟ أم هناك لبنان آخر انتهى من زمان؟
لبنان الذي يضمّ الآلاف ممّن يرقصون ويؤيّدون ويحتفلون بكل ما هو شواذّ وعبثيّ. وإلا كيف يكون وطن بدون رئيس، بدون حكومة، بدون مجلس تشريعي بصلاحيات كاملة، بدون سلطة فعلية، بدون قوى شرعيّة قادرة على ضبط الحدود شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، بدون قضاء، بدون عدالة تلاحق الصيارفة وباعة الحمام، بدون قوانين تردّ الحقوق لأصحابها وتحاكم المرتكبين ومفجّري بيروت على رؤوس أهلها، بدون قرار حكومي في الحرب والسلم، بدون مساواة في المواطنة، بدون استشارة الشريك في مواضيع وطنية عالية الأهمية، بدون احترام الرأي الآخر وسؤاله عما يريد أو لا يريد؟
كل هذا، وغالبية الشعب تسكت عن المحرّمات الفظيعة، وتلعب بالسيف والترس أمام الزعيم، و”تهَوبر” له. يقولون في عز النهار إنه سارق، وقد صار من أصحاب الملايين بين ليلة وضحاها من وظيفة لا تدرّ هذا الكم الهائل من الأموال، ثمّ يمدحونه كلّما دق النفير، وخرجوا إلى الموت من أجله لا إلى الحياة.
لا يا سيد لودريان، لبنان السياسيّ لا وجود له الآن لكي تنذرنا بزواله. فقد انهار عندما انهارت القيم، وتسابق السياسيون على مشاريع النهب والاستثمارات والصفقات، وتخلّوا عن مسؤولياتهم الأساسية… لبنان المفلس، المتردّي، والأخير في قائمة الدول البائسة واليائسة، وأنت تتحدث عن اللاموجود على أنه موجود. وكان أحرى بك أن تبشّرنا بلبنان الحرّية، والسياحة، والازدهار، وببيروت باريس الشرق، لا لبنان الاستبداد والنفايات والظلام والانحطاط. ولا غرابة أن يكون كثير من الناشطين يفكرون بالتقسيم، ويعلنونها صراحة بعدما كانت كلمة “تقسيم” جريمة في الماضي ولا يجرؤ أحد على التلفّظ بها. وهم يريدون الانفصال على طريقة قبرص التركية، بعدما تبين أن التعايش ممنوع في ظلّ الاستئثار والفرض والإكراه. ولو كان الوضع سويّاً لما فكّر أحد بأن يقسّم المقسّم ويشرذم المشرذم.
هناك في لبنان من يخافون من الفيدرالية، وهم الذين “يفدْرلون”، ويطالبون بالتوافق ولا يوافقون، وبالميثاقية ولا ينفذونها إلاّ إذا كانت لصالحهم وحدهم. فالمشكلة إذن ليست سياسية، بل هي في النهج الاستعلائيّ. وعندما يزول هذا النهج يعود لبنان الحقيقي إلى حقيقته.
نحن بحاجة يا سيد لودريان إلى “بريسترويكا” لبنانية، تنطلق من الأخلاق أوّلاً، فلا يمكن التعايش في منزل يشتم أبناؤه بعضهم بعضاً، ويتنافرون، ويتناقضون فكراً وممارسة. بل نحن نحتاج إلى ثقافة يمكن أن توصِلنا إلى ما وصل إليه أجدادك في العام 1789، عندما تخلصوا من الطغيان، وهدموا جدران الباستيل.
ج.د.