شبح المواجهة – كلمة مدير التحرير
يخطئ من يعتقد أنّ إسرائيل كانت تنتظر ضربة مثل ضربة مجدل شمس الدموية، لكي تقرّر الردّ الذي تخطط له ضد لبنان. فبعد السابع من تشرين الأول، تغيّر المشهد كلّه، وترف الوقت ليس في صالح أحد. والجميع يعضّ على الأصابع، ويتمنى أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، لكي تلغى جميع الفصول الدموية البغيضة التي أفرزتها المواجهات بين إسرائيل وإيران. على أنّ الأخيرة تتدخّل بالحد الأدنى، وتدفع بأذرعها إلى الميدان لتشتّت الشغط الإسرائيلي عن قطاع غزة، وهو محور مهم لطهران، إذا خسرته، خسرت الكثير، وتكون لأول مرة فقدت ذراعاً لم تكن تتمنى أن تفقده في أي وقت. فـ”حماس” هي من أهمّ حلفاء إيران، وهي التي تستطيع أن تؤلم عدوّها أكثر من أي طرف آخر.
وعلى الرغم من أن الجانب الإسرائيلي يتحدث عن خوض الحرب على سبع جبهات، فإن الجبهات الست الباقية تفاصيل يمكن تأجيل النظر فيها، فليست المواجهة الآن بالطريقة ذاتها التي كانت في الأعوام 1948، 1967، 1973، أي محاربة الجميع بـ”الجيش الذي لا يُقهر”، فالحرب الدائرة حالياً هي حرب تفتيت وقضم، أي حرب الجزء وراء الآخر. ولذلك لا يُقدم الإسرائيليون على غزو الجنوب، وإبعاد حزب الله عن الحدود، لتأمين عودة 70 ألفاً من الإسرائيليين المهجرين إلى منازلهم. فخططُهم تتركز على غزّة أوّلاً، وربّما تستمر المعارك لشهر أو شهرين أو سنة، وبعد ذلك يمكن أن يكون هناك شيء في مواجهة الطرف اللبناني، الذي لديه عناصر قوة، وفي الوقت نفسه يعاني من نقاط ضعف كثيرة، أهمها: الانقسام الداخلي حيال منطق الحرب ومَن الذي عليه أن يعلنها ويبدأ بها، وعدم وجود سلطة نافذة في بلد، هو الوحيد في العالم بدون رئيس، وتُصرّف أعماله حكومة عرجاء لا تعرف إن كانت مع الحرب أم لا، فتارة هي حكومة سلام، وتارة حكومة تهديد ووعيد، وتارة تتَّهم إسرائيل بانتهاك القرار 1701، وتارة أخرى لا تنكر أن لبنان هو الذي أعلن الحرب بالفم الملآن، وبتوقيت معروف، وقد سمعه الجميع.
القصف على الضاحية الجنوبية لبيروت مؤشر على أن الضربة الإسرائيلية محدودة، بحيث لا تشعل شرارة حرب مدمّرة على الجانبين، ويخشى الإسرائيلي منها، فيما تتوغل قواته في قطاع غزة يوماً بعد يوم. وليس من مصلحة أي جيش منهك، أن يفتح جبهتين معاً. كما أن موقف الولايات المتحدة الأميركية اليوم ليس مشجعاً لإسرائيل، لكي تقوم بخطوة غير محسوبة، لذلك تجد قيادة نتنياهو نفسها محرجة، فمن جهة تريد الردّ على صاروخ مجدل شمس، ومن جهة ثانية تريد عملية صغيرة لا تقود إلى الهاوية، ولا تُغضب الأميركي أكثر مما هو غاضب.
فمتى إذن يعود أبناء الجنوب والجليل إلى ديارهم؟
هذا هو السؤال الأبرز الذي تطرحه الأوساط الساسية والإعلامية. والإجابة عن هذا السؤال صعبة قبل أن تنتهي الحرب في غزّة، وقد لا يستطيع نتنياهو أن يعلن عن “الانتصار” الذي يتحدث عنه باستمرار، فيما يريد أن يبرهن لحليفه الأميركي أن جميع المفاوضات التي قادها أموس هوكشتاين لم تنجح، فيُحرج عند ذلك الإدارة الأميركية ويصبح الحل العسكري أمراً واقعاً.
لا أحد يرغب في أن يعود شبح المواجهات إلى الجنوب، ما عدا الإسرائيلي الذي يطالب ويطالب، ويضع شروطاً محدّدة من الصعب تحقيقها في الظروف الراهنة. لكن ما هو مؤكد أن وحدة الساحات، وإعلان الحرب من جانب حزب الله في الثامن من تشرين الأوّل، لم يفلحا حتى اللحظة في وقف آلة الحرب الإسرائيلية، ولا في مشاغلتها، ولا في تأخيرها، ولا في منع التهديم الممنهج لكل مظاهر الحياة على الأرض، ولا في إعادة الشهداء الذين سقطوا. والله وحده يعلم متى ينتهي هذا النزيف الرهيب.
ج.د