قبل أيام نشرت صحيفة الأستراليان واسعة الانتشار، تقريراً يتحدّث عن تقديم النائب اللبناني عن طرابلس، وزير العدل الأسبق أشرف ريفي، دعوى قضائية، ضد عصبة الأشرار الذين تآمروا لإصدار حكم جائر بحق شقيقه الطبيب اللبناني المعروف في سيدني، الدكتور أشرف ريفي. وقد صدر الحكم غيابياً بحق الطبيب ريفي الذي يعيش في أستراليا، ما حرمه من السفر إلى وطنه الأم، وعدم تمكنه من حضور مأتم والدته التي توفت في غيابه.
كنّا نتمنى لو أن مئات المحامين والحقوقيين انضموا إلى النائب ريفي وشاركوه في تقديم دعوى جَماعية. وهذه الخطوة على رمزيتها، قد توحي بأن لبنان التاريخ والحضارة والعلم، ليس مزرعة سائبة للقضاء العسكري، الذي خرج عن مهمّته الأصيلة، وهي كما معروف في جميع أنحاء العالم، ما عدا الدول الاستبدادية، محاكمة العسكريين فقط. ففي أستراليا مثلاً، أنشئت المحكة العسكرية من أجل هدف رئيسي هو الحفاظ علىالنظام ضمن قوات الدفاع الأسترالية، أي الجيش، ولم يحدث في تاريخ البلاد أن مثلَ إنسان مدني أمام محكمة عسكرية. وفي الولايات المتحدة تُعتبر المحكمة العسكرية أعلى محكمة تختص بالجيش فقط، وهي تحاكم أفراد القوات المسلحة، الذين يُتهمون بجرائم خطيرة جداً. وفي روسيا، تُعتبر المحكمة العسكرية محكمة فيدرالية تختص بالقضايا التي تتعلق بالقوات المسلحة في البلاد والقوات العسكرية الأخرى، ولا تحاكم مدنيين.
إن استخدام المحكمة العسكرية لمحاكمة الدكتور جمال الريفي، يفرض علينا طرح الأسئلة:
أليس من محاكم مدنية في لبنان، يمكن أن تحاكم المواطنين؟ وإذا كانت تلك المحاكم لا لزوم لها، فلماذا أنشئت؟ ولماذا لا تكون كل المحاكم عسكريّة إذن، وتلغى المحاكم المدنية؟
ثمّ إذا كانت المحاكم العسكرية لا تسمح باستئناف أحكامها، فما الذي يمنع الخطأ، أو إدانة أي إنسان وهو بريء؟ ولماذا يصحّ الاستئناف في المحاكم المدنية وتظل قرينة البراءة محتملة، بينما لا يصح في محكمة عسكرية وتنتفي قرينة البراءة فور التلفظ بالحكم؟
نحن في ظل حكم عرفيّ إذن، تفرضه ظرف محددة، كأحكام الطوارئ، أو العدالة في ظروف الحرب، كالحكم العرفي الذي أنشأه جمال باشا أثناء الاحتلال العثماني للبنان في الحرب العالمية الأولى. وقد أوصت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتّحدة لبنان منذ العام 1978، ومجدَّدًا في العام 2018، بإلغاء اختصاص القضاء العسكري لمحاكمة المدنيين وضمان شروط المحاكمة العادلة أمامه. كم تقدَّم عدد من النوّاب باقتراحات قوانين تهدف إلى حصر صلاحيات القضاء العسكري وتعديل أصول المحاكمات المتّبَعة أمامه، ولا تزال جميع تلك الاقتراحات قيد الدراسة في لجنة الإدارة والعدل البرلمانية، لأن هناك أطرافاً كانت تستخدم المحكمة العسكرية لتنفيذ الكيدية، والانتقام من المعارضين، وتركيع من لا يبصم لقوى الأمر الواقع التي كانت مهيمنة. ويبدو أن التغيير الذي حدث الآن في المنطقة، رّبما يفتح كوّة في جدار التصلب، ويكون من ضمن الإصلاحات المرجوة (إن حدثت)، فكّ هذا القيد الثقيل، وإعادة تنظيم الجسم القضائي في البلاد.
تقول سحر مندور، و هي باحثة في منظمة العفو الدولية مختصة بالشأن اللبناني إن المحكمة العسكرية لا تستوفي معايير العدالة، وينبغي أن تقتصر ولايتها القضائية على محاكمات الأفراد العسكريين لإخلالهم بالانضباط العسكري.
كما أن “المفكّرة القانونية”، تطالب أيضاً بحصر اختصاص القضاء العسكري في الجرائم ذات الطابع العسكري البحت التي يرتكبها أفراد الجيش، ومنع انعقاده للنظر في الجرائم التي يرتكبها المدنيون.
إن قضية الدكتور جمال ريفي ليست يتيمة، بل هناك العشرات والمئات من القضايا التي كان يمكن إعادة النظر فيها، لو تمكن اللبنانيون من إنجاح ثورتهم، ولم تنزل عليهم الهراوات واللعنات وطلقات الخردق، من أجل الإبقاء على التركيبة السياسية، وعدم إلحاق الأذى بها أو تغييرها. وكانت تلك فرصة ممكنة لتحقيق العدالة. ونعتقد أن الضوء يلوح في الأفق مرّة أخرى، وعلى جميع الأطراف التي كانت تخشى أن تطلق صرختها، أن تستغل الفرصة الآن، وتبدأ النضال الحقيقي من أجل لبنان جديد، يختلف عما كان عليه في فترة الوصاية. ومن أهمّ تطلعات الأجيال أن تنتهي فترة الأحكام العرفية، ونعود إلى محاكم مدنية حضارية وإنسانية، هي واحدة من صور لبنان، الذي يجب أن يرفض أن يكون غير ذلك.