سجّلت الثورة في حلقتها الأولى، يوم 17 تشرين الأوّل 2019، نجاحاً محدوداً، إذ تصدّت لها قوى الأمر الواقع، ونسجت حولها الخرافات، مثل تمويل السفارات، وتصرّفات منافية للحشمة، كما استُهدف أبناء الثورة بالعصيّ وإحراق الخيام، وإطلاق الخردق على الوجوه. وحده الجيش كان شاهداً غير صامت على ما يجري، بل ابتلع الغصّة، ورفض رفضاً قاطعاً قمع الاحتجاجات، وهو المطلب الذي نادت به الطغمة الحاكمة التي تناوبت على اغتصاب الوطن، ونهب ثرواته، وتقاسمت مداخيل الإدارات وثمار الفساد، وتقاطعت مصالحها في بيانات وزارية متتالية محشوّة بالأكاذيب والخدع البصريّة التي يتقنها السحَرة. وفي الحلقة الثانية، أوصلت الثورة مجموعة من النواب الذين جاؤوا من خارج المنظومة الحاكمة، فاستشاطت هذه الأخيرة غضباً، وهزءاً، وأبدعت من جديد في تصغير المنجز، وتحقير أصحابه، ما يظهر التغوّل اللفظيّ والسلوكيّ لهذه الفئة المتسلّطة التي لا ترتدع بأيّ منطق.
وعلى الرغم مما حدث في انتخابات المجلس النيابي عام 2022، وتمكّن 16 نائباً من اختراق الجدار الصلب للعصبة الحاكمة، إلا أن هذ استمرت في منارساتها، وكأنّ البلاد محسوبة في أملاكها، ولا مجال لأحد أن يغير ما كتبته بالترغيب والترهيب، وصولاً إلى التصفيات الجسدية، وقمع كل صوت ينادي بالتغيير. لكنّ هذه الفئة لا تعرف أن الثورات تستلزم وقتاً طويلاً لتأتي أكلها، فالثورة الفرنسية استغرقت ثلاثين عاماً لتنتصر في عام 1789، وشابتها أخطاء كثيرة، لكنها أفرزت وطناً مختلفاً عن الإرث الملكيّ الاستبدادي.
وثورة لبنان من هذا القبيل، شعلة لا تنطفئ، احتفالية أخرى من احتفاليات الربيع العربي الذي بشّرت الأنظمة بموته، لكن سقوطاتها توالت، وتدحرجت رؤوس كبيرة. وبقي الربيع ربيعاً، وظلت الثورة ثورة أجيال تحمل الراية وتسير في دروب الكرامة.
إنّ شعب لبنان الذي انتصر بثورته، لم يستجب له القدر، بل فرض قدره فرضاً، فلا الاستفراد، ولا كمّ الأفواه، ولا الكيدية، ولا المحاكمات، ولا الاغتيالات، ولا استنسابية القضاء، ولا تجميد التحقيقات في جرائم كبرى، منعت هذا الشعب من إيصال القائد العماد الذي رفض أن يقمع حركتَه إلى السلطة. وبعد نضال استغرق أكثر من سنتين، وتمترس السلطة وراء الأوهام دقّت ساعة العمل، ووصل إلى بعبدا رئيس ملك، مهرَ المرحلة بخطاب جديد، لم “تعلكه” أوساط الممانعة، ولم يصفق له نوابها، المؤمنون حتماً بالميثاقيّة والتوافق، خصوصاً في الحرب والسلم والتسلح وتصدير المقاتلين إلى مختلف الأصقاع. وما الصراخ الذي نسمعه اليوم عن الميثاقية إلا شمّاعة تُعلق عليها الانتكاسات. حجّة مرتبكة لفظها الزمن، وتضاحك منها الفاهمون، أفليس الدمار والخراب والتهجير والفاتورة الهائلة التي سندفعها لإعادة الإعمار نتاج الميثاقية والتوافق؟ أوليس تهديد القاضي طارق البيطار وكف يده على التحقيق في انفجار المرفأ، هو ثمرة بطن التوافق؟ أولم تكن انتخابات عام ١٩٩٢ ميثاقية عندما قاطعتها القوات اللبنانية، الكتائب، الوطنيون الأحرار، والتيار الوطني الحر، ونجحت مهى الخوري أسعد في دائرة جبيل بـ 48 صوتاً؟
ستعود المنظومة إلى لغتها الخشبية، خصوصاً عندما يتأكد لها أن الرئيس الجديد لا “يمشي على ذوقها”، ولا يهمه سوى الشعب وقضاياه المحقّة. وعليه فإن الحلقة الثالثة من مسلسل الثورة تمت بانتخابه رئيساً، وتسمية القاضي نوّاف سلام (من خارج المنظومة) لترؤس الحكومة. والحلقات ستتوالى تباعاً، وسنسمع كثيراً من الجعجعة والشكوى والتبرّم والتظاهر بالمظلومية، وكذلك العرقلة. لكن الفرق هذه المرة أن الرئيس جوزاف عون لن يتذرّع بالذين “ما خلّوه يشتغل”، بل هو الذي سيعطّل آلية المعطّلين، وسيمضي بالوطن قدماً، وهو وطن يستحق الحياة، وأن يكون في طليعة الدول المزدهرة… كان ينقصه فقط هذه الحلقة من مسلسل الثورة: العماد جوزيف عون رئيساً، ونواف سلام رئيساً للوزراء، ولا يأتمر هذان الرجلان من أحد، سوى من الله ومن مصلحة لبنان.
ج.د.