للذكرى والتاريخ

عندما كان الرئيس اللبناني المنتخب العماد جوزيف عون يلقي خطاب القسم في ختام جلسة انتخابه التاريخية، يوم 9 كانون الثاني، كانت بعض الوجوه متجهّمة، ولوحظ أنّ بعض النواب امتعضوا من كثرة “العهود” التي احتواها الخطاب، لأنّها تخالف ما درجت عليه العادة، منذ دخول جيش الأسد إلى لبنان، وفلسفة “الفرض” بفائض القوة على مكوّنات لبنانية ما لا ترغب به، خارج أي التزام بالميثاقية واحترام رأي الآخر، إلى حد اعتبار هذا الآخر غير موجود.
وإذا كان الشعب جزءاً من المقاومة، كما في المعادلة السابقة، فإن هذا الشعب قد خسر كثيراً. خسر أكثر من ستّين قرية وبلدة في جنوب لبنان، سُوّي العدد الأكبر منها بالأرض، وهي القرى والبلدات التالية: الناقورة، الضهيرة، أبو شاش، إبل السقي، الطيبة، الطيري، البياضة، الماري، العديسة، القليعة، أم توته، صليب، الجبين، الخريبة، الخيام، خربة، مطمورة، أرنون، البستان، بنت جبيل، بيت ليف، بليدا، بني حيان، عين عرب، دير سريان، حولا، مرجعيون، دبين، يحمر، يارون، يارين، دبعال، دير ميماس، حلتا، حانين، ميسات، مـروحـين، مارون الراس، مركبا، عيتا الشعب، عيترون، علما الشعب، عرب اللويزة، القوزح، رب الثلاثين، رامية، رميش، راشيا الفخار، شبعا، شيحين، شمع، طلوسة، عدشيت، القصير، طير حرفا، كفر حمام، كفر كلا، كفر شوبا، الزلوطية، محيبيب، ميس الجبل، عين إبل، وعيناتا.
بتاريخ 4 تشرين الثاني 2024، كتبت جريدة الشرق الأوسط، وتحت عنوان “إسرائيل تُبيد 29 بلدة لبنانية حدودية لإنشاء منطقة عازلة على أرض محروقة”
أنّ نحو 29 قرية ومدينة تمتد على طول 120 كيلومتراً من الناقورة غرباً إلى شبعا شرقاً، دُمّرت معظمها بشكل كلي، لا سيما عيتا الشعب، وكفركلا، والعديسة، وحولا، والضهيرة، ومروحين، ومحيبيب والخيام.
وبلغ عدد الوحدات السكنية المدمّرة هناك نحو 25 ألف وحدة.
الخرائط لا تخطئ، وليس صحيحاً أن الجيش الإسرائيلي لم يدخل إلى لبنان سوى مئة متر، فبعض المواقع تبعد حتى خمسة كيلومترات عن الحدود. والشعب لم يعد سهلاً غشه، وهو يعرف لماذا تنقبض الوجوه عندما يأتي رجلان من رحم الثورة، التي نُكل بها وتعرّضت للعنف والترهيب، فقط للحفاظ على المنظومة التي عاثت فساداً وطغياناً، وتحول أقطابها إلى ديكتاتوريات، حتى أنهم خرجوا على الدور المنوط بهم دستورياً، وتصرفوا كان البلاد ملك لهم، ومنعوا وسمحوا، وأقرّوا ولم يقرّوا، والشعب – الجزء، صابر وصاغر. أما مصدر التجهم الثاني فهو الحقيقة التي فرضت نفسها على الوجود، ولم تعد تفلح في طمسها القواميس ولا اللعب على الألفاظ، ولا البحث عن مصطلحات للتدوير والتفخيخ، ولا الحركات البهلوانية، والتمثيليات المضحكة شمالاً وجنوباً وساحلاً وجبلاً. واللبنانيون يصدقون أن هزيمة حدثت في سوريا، وليس انتصاراً، وأن أطرافاً كانت فاعلة في لبنان تأمر وتنهي غابت عن الأبصار، وأن خطوط الاتصال والإمداد قُطعت … و…، وأن الجيش الإسرائيلي وسع احتلاله للجولان والقنيطرة، وقد لا ينسحب إلى الأبد من جبل الشيخ. أما إذا كان البحث عن أي انتصار، وتثمير أي حركة وسكنة في هذا الاتجاه، فهذا لا ينسجم مع الواقع المرئي لجميع البشر.
لقد تم تمديد مهلة الانسحاب الإسرائيلي حتى 18 شباط المقبل، بمعنى أن الجيش الإسرائيلي لم ينسحب بعد، ونحن نطالب بانسحابه، ونريده أن ينسحب الآن، فلماذا لا نرى العجب؟
للأسف لن يخرج آخر جندي إسرائيلي من لبنان قبل 18 شباط. وقد طالبت إسرائيل بتاريخ 28 شباط لأنها تعرف أن المطالبة بالحد الأقصى تسمح لها بالحد المقبول، كما في أي تجارة أو عمل سياسي. وللأسف فإن الحكومة اللبنانية قبلت بالمنطق الإسرائيلي، فهل هذا تسليم بأن الجيش اللبناني لم يقم بواجبه كاملاً في تفكيك بنية حزب الله جنوب الليطاني؟ وما الذي سيمنع المحتل الإسرائيلي في 18 شباط من اختلاق ذريعة أخرى لتأجيل الانسحاب، أو تجديد القتال؟ وهل يخبرنا أي طرف لماذا تبقى القوات الإسرائيلية المحتلة في خمسة مواقع استراتيجية، في العويضة وتلة الحمامص وكفركلا ومارون الراس، وهذه ملك للشعب اللبناني الذي هو الكل وليس الجزء؟
لبنان بين نارين، فلا طرق إمداد للسلاح لا بحراً ولا براً، ولسنا قادرين على المواجهة العسكرية الآن. فعندما كانت طريق سوريا مفتوحة، لم يتمكن هذا اللبنان من دحر العدو ومنعه من التوغل إلى هذا الحد. وبدلاً من إجراء نقد ذاتي، واللجوء إلى الحقيقة التي تحرر من الأوهام، وإعادة قراءة المشهد برمته، وكيف أن الشرق الأوسط تغير. وكل شيء تغير… نعود إلى الأفكار الجامدة، ونرفض التسليم بأن العجلة تدور إلى الأمام، اللهمّ إلا إذا كان المقصود نقل الفائض إلى الداخل، من أجل بقاء المنظومة ومَن يهيمنون عليها، ومنع الاستحقاقات الكبيرة التي قد تفاجئ الجميع، وكذلك الضغط على الرئيسين، لكي يلجآ إلى تبويس اللحى، واسترضاء هذا وذاك على حساب مصلحة لبنان الحقيقي، ومنع التغيير المفترض… وعند ذلك فقط يكون خطاب القسم للذكرى والتاريخ.
ج. د.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com