منطق التخوين

في جميع دول العالم أحزاب واتجاهات تختلف، وتتنافس فيما بينها للوصول إلى الحكم. ولم نسمع في الدول الديمقراطية طرفاً يوجّه تهمة الخيانة إلى الطرف الآخر الذي يتناقض معه في السياسة وإدارة البلاد.
يجري في أميركا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا والسويد وكندا… كثير من النقاش والمواجهات أيضاً، داخل أروقة البرلمانات، أو في الإعلام. ولكن لم نسمع مرّة واحدة في التاريخ كلّه أن مسؤولاً في تلك الدول اتهم مسؤولاً آخر بأنّه خائن، لأن آراءه غير مقبولة…
الأمر يختلف عندنا، بل في العديد من الدول التي تتخذ نهج التوتاليتارية، أي التفرد والشمولية. حيث يصبح الرأي الواحد هو الصائب ولا مجال للنقاش فيه، ويكون من الغرائب والعجائب أن يرتفع صوت معارض، وإذا ارتفع فهو صوت “الخيانة”.
وللأسف، دخل لبنان إلى نادي التوتاليتارية، والحُكم بالعصا، والتأديب لمن يخالف. وما نسمعه من خُطب، وصراخ، وهستيريا، طالت حتّى المقامات الروحيّة التي تُعتبر رموزاً لا يجوز المسّ بها… يدلّ على أن وطننا فقدَ قيمة مهمّة من قيم الحرّية والرأي… وأُدخِل في مجموعة من الدول القليلة التي ترفض النقاش الحضاري، والاختلاف الطبيعي بين مكوّنات البشر، وحتميّة التنوّع الثقافي والفكريّ. وبات أي تصريح لا يوافق الفكر المتحجّر عرضة للتخوين.
والأمر لا ينتهي هنا، ففي الشرق الأوسط كلّه، ينطوي معنى كلمة “خيانة” على تهديد بإهدار الدم. ولذلك تتّخذ بعض الجهات الآن احتياطات أمنية، وتدابير مشددة للحماية من القتل، بتهة الخيانة.
وقد أحصينا في الأشهر القليلة الماضية كمّاً من خطب التخوين، يفوق المنطق والخيال. فمَن هم الخونة؟ ومَن هم غير الخونة؟ ومَن أجرى فحصاً للدم ليعرف مَن الذي يقبض ويتعامل ويرتهن بإرادة الخارج؟ وهل يضمن المخوّنون أفراداً بسطاء وجهلة، قد يصدّقون أنّ هناك مَن يتعامل مع أميركا وإسرائيل والغرب، فيعرّضون حياته للخطر؟
لقد حدثت موجة اغتيالات هائلة في لبنان، في الماضي غير البعيد، وجميع الذين سقطوا ضحايا فيها تقريباً، هم من جهة واحدة، تعرّضت للقدح والذمّ والتشهير، ونرى ببساطة أنّ هذا الانتقام الوحشي ينتمي إلى العصور الوسطى، وليس إلى عصرنا هذا. فلغة التفاهم والتفهّم يجب أن تسود المجتمعات، ومنطق الفرض والإجبار لا يليق بأيّ مجتمع متمدّن. وإذا كان الحوار هو المطلوب، فالحوار يتمّ بالاستماع إلى الآخر، وليس باستجلابه إلى جلسة استماع تُتلى فيها القرارات المُعَدّة سلفاً، والواجب البصم عليها.
وكم يزعجنا أن يدخل لبنان إلى كهوف الزمن المتحجّر، بدلاً من أن يكون وطن النور والإشعاع… ويصبح أيّ حرف نقوله أو نكتبه مرهوناً بفحص الدم، بينما فئة من الناس معفاة من أيّ فحص أو اختبار!
ج.د.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com